لو لم يحبسنا وباء الكورونا، ويفرض علينا الحجر الصحي، لما تسنّى لي أن أكتب مذكراتي، أو بالأحرى قصّتي مع الكتاب.
لقد أتاحت لي هذه الاقامة الجبرية الفرصة لنقد الذات، وأنا استعرض مراحل حياتي من الطفولة حتى تاريخه. وما خانتني به الذاكرة، أسعفتني به الصور الفوتوغرافية التي أحتفظ بها لأتذكّر من خلالها محطات كثيرة خلال مسيرتي. فالصورة هي مفتاح للذاكرة، تُنعش الحياة فيها، وتعوّض عما نسينا من تفاصيل ووقائع. لقد تبيّن لي من خلال قصتي أن ثمة أموراً لا تظهر إلا بعد التوغّل في التجربة، ومعاشرة الناس؛ منها أنّ لا شيء ثابتاً في الحياة. والانسان لا يعرف ما يخبّئه له القدر. ومواجهة الحياة بمرّها يتطلب عزيمة وإرادة صلبة، وثقة بالنفس مدعومة بالإيمان. وفوق ذلك، الاقتناع بأن الانسان يرتكب أخطاءً في حياته، ولكن المهم أن يتعلم منها، ويعترف بها، لكي يتعلّم أولاده ويأخذوا منها العِبر .
إن أكبر حصانة للانسان هي أن يتسلّح بالإيمان والمحبة. وأن يُبعد الحقد والحسد من داخله. فالإيمان والمحبة يعطيانه صفاء الذهن، وسلامة التفكير، ويضيئان له طريقه، بينما الحقد والحسد يعميان بصره وبصيرته. إن كل لحظة من لحظات نجاحاتي كانت تُشعل فيّ الحماس، وتُجدّد فيّ العزيمة للسير إلى الأمام في تحقيق طموحاتي. كما أن لحظات فشلي كانت تعطيني القوة والعزيمة للوقوف من جديد.
إن الحياة، قبل كل شيء، هي معركة مع الذات، وبحر من التجارب. المهم أن نتعلّم منها، ونستفيد من التجارب التي مررنا بها، نتقوّى من التي أمدّتنا بالتوفيق والنجاح، ونأخذ العبر من التي أفشلتنا، ولا يهم إن كان من تصرّفاتنا أو من تصرّفات غيرنا. فجلّ من لا يخطئ. المهم أن نستمدّ منها ما يثبّتنا ويدفعنا إلى تجنّبها، واستبدالها بما هو إيجابي، ليمدّ نجاحاتنا بنسغ جديد وصافٍ.
لقد كنت خلال كتابتي صافي الذهن، مفعماً براحة الضمير، بعيداً عن الاشادة بالذات، معترفاً بأخطائي، ومشيداً بمن لهم فضل عليّ، رغم أنني كنت فخوراً بما أنجزته خلال مسيرتي. كما لا بدّ من الاشادة برفاقي الدوليين الذين تعلّمت منهم الكثير، وقدّمت لهم الكثير من خلال فتح الطريق لهم لدخول عالمنا العربي الساحر. لقد تعلّمت المهنيّة منهم، وأضأت الطريق لهم ليتعرفوا على حقيقة الشرق، بمفاهيمه الانسانية، والروحانية والثقافية، متأثراً بما كتبه الأديب اللبناني أمين الريحاني في كتابه خالد عن مادية الحضارة الغربية وروحانية الشرق. كما تبيّن لي، خلال هذه المسيرة، كم نحن العرب متخلفون عن اللحاق بحركة النشر الدولية، فقط لأنّ لا تخطيط لدينا للمستقبل، ولأن الثقافة هي في أسفل سلّم الأولويات لمسؤولينا، ولأن أزمة الكورونا أتت لتزيد من مآسي حركة النشر العربية، وأحوال كتّابنا ومثقّفينا. أما غير ذلك، فكل شيء مهيّأ ومستعد للنهوض والعطاء.
إن هذه المذكرات ما هي إلا مقاطع من سيرة حياة عائلية ومهنية، ومقاطع من علاقات انبنت على أسس متينة من الصداقة والمحبة لأناس ربطتني بهم مقاعد الدراسة، أو تفاعلات الحياة، أو المهنة. وحاولت جاهداً أن أبقى وفيّاً لها، رغم تقلّب ظروف الحياة، ورغم العمر الذي يأخذنا في مسيرته الحثيثة إلى عوالم مغايرة.
ولأن المذكرات عادة ما تكون كلمة وصورة. ولأن الصورة تمدّ الكلمة بما يقرّبها من الحياة، جاءت هذه السيرة ناطقة بالكلمة والصورة معاً، لتُضفي نوعاً من الطراوة، وقبَساً من نور يعطي للجهد قيمتَه، وللنشاط رونقَه البهيّ.
لهذا، جاءت هذه المذكرات على قسمين، يسند أحدهما الآخر؛ قسم الكلام، وقسم الصور، ليظهر ما مرّ معي، طيلة هذه السنين، على أفضل ما يمكن.